تحديات أردوغان وما بعده- مستقبل تركيا وحزب العدالة والتنمية

المؤلف: د. سعيد الحاج08.15.2025
تحديات أردوغان وما بعده- مستقبل تركيا وحزب العدالة والتنمية

في مطلع الشهر الحالي، أثار مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية جدلاً واسعاً، إذ تناول المقال الوضع الصحي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وزعم أن حالته الصحية قد تعيق استمراره في قيادة تركيا بعد عام 2023. ولم يكتفِ المقال بذلك، بل بحث في شخصيات بديلة محتملة لخلافة أردوغان، الأمر الذي أثار تساؤلات عديدة حول أهداف المقال وتوقيته والدلالات الكامنة وراء بعض التفاصيل التي أوردها.

من يخلف أردوغان؟

في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، نشر ستيفن كوك، الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، مقالاً في "فورين بوليسي" بعنوان "أردوغان قد يكون مريضاً جداً ليبقى رئيساً لتركيا".

زعم كوك في مقاله أن التحديات التي تواجه أردوغان في انتخابات 2023 تتجاوز تراجع شعبية حزبه في السنوات الأخيرة وخسارة بعض المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية الأخيرة، لتصل إلى التشكيك في قدرته الصحية على الاستمرار في الحكم، أو حتى الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

وأشار المقال إلى بعض الوقائع التي يعتبرها مؤشرات على تدهور صحة الرئيس، مثل صعوبة المشي، والاستناد إلى مرافق عند صعود الدرج، والتلعثم في الكلام، في مناسبات مختلفة خلال الأشهر الأخيرة.

ورغم اعتراف الكاتب بأنه لا يمكن الوثوق بهذه "المعلومات" أو الاعتماد عليها بشكل كامل، إلا أنه يرى أنها تشكل بمجموعها أرضية كافية للتساؤل حول مستقبل الرئيس التركي بعد 19 عاماً قضاها في حكم البلاد.

يبدو أن الأوساط السياسية في أنقرة أخذت هذه الإشارات على محمل الجد، واعتبرتها ربما تعكس توجهاً ما في واشنطن، أو تسعى لخلق هذا التوجه على الأقل. فبعد يومين فقط من نشر المقال، نشر الرئيس التركي على حسابه في تويتر مقطع فيديو له وهو يمارس رياضة كرة السلة، مؤكداً "حرصه على ممارسة الرياضة ثلاث مرات أسبوعياً"، في محاولة واضحة لطمأنة الجمهور بشأن صحته ولياقته البدنية.

وسرعان ما انتقل كوك للحديث عن "مرحلة ما بعد أردوغان" والشخصيات "البارزة" المرشحة لخلافته، واقترح ثلاثة أسماء على وجه الخصوص: وزير الداخلية سليمان صويلو، ووزير الدفاع خلوصي أكار، ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان. ورأى كوك أن صويلو قد خسر الكثير من حظوظه بعد التسريبات التي نشرها زعيم المافيا الهارب سادات بكر، وأن فيدان يفضل البقاء بعيداً عن الأضواء، مما يجعل أكار المرشح الأوفر حظاً والأقوى لخلافة أردوغان.

وهنا، شرع الكاتب في شرح الأسباب التي تجعل أكار متفوقاً على صويلو وفيدان، وعلى رأسها دعم المؤسسة العسكرية له، ليس فقط بسبب خلفيته العسكرية ورئاسته لأركان الجيش سابقاً، ولكن أيضاً لأنه المسؤول عن إعادة هيكلة القوات المسلحة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، وعن ترقية غالبية الضباط في المؤسسة العسكرية خلال السنوات الأخيرة، مما يضمن "ولاءهم له"، وفقاً للكاتب.

وفي ختام مقاله، أشار كوك إلى أن نظرة واشنطن إلى أكار على أنه "براغماتي وقابل للتعامل" ليست فكرة غير منطقية، لكنه حذر من أن أكار ينتمي إلى الخلفية الأيديولوجية نفسها لأردوغان، وأنه مسؤول عن التوتر مع اليونان في شرق البحر المتوسط، فضلاً عن كونه يمثل تياراً مناهضاً للغرب داخل المؤسسة العسكرية التركية، على حد تعبيره.

دلالات المقال

من الملاحظ أن المقال تبنى فكرة تدهور صحة الرئيس التركي بناءً على أحداث يمكن تفسيرها بشكل أكثر منطقية على أنها ناتجة عن الإرهاق، ثم بنى تحليله كاملاً على هذه الفرضية. إلا أن هذه لم تكن الدلالة الوحيدة أو الأهم في المقال.

أولاً، هناك دلالة تتعلق بالموضوع نفسه، أي مناقشة صحة الرئيس التركي والادعاء بأنه قد لا يتمكن من الترشح لانتخابات 2023 والاستمرار في حكم تركيا بعدها. وثانياً، هناك دلالة تتعلق بالتوقيت والسياق، أي الخلافات التركية الأمريكية المتزايدة التي دفعت أردوغان إلى الإدلاء بسلسلة من التصريحات السلبية تجاه إدارة بايدن على وجه الخصوص. وثالثاً، هناك دلالة تتعلق بالموقع الذي نشر المقال، "فورين بوليسي"، خاصة أنه لم يكن المقال الوحيد في هذا السياق، فقد نشر الموقع نفسه مقالاً ثانياً بعد أربعة أيام من الأول، يرى فيه أن "وريث أردوغان ليس مشكلة"، مشيراً بذلك إلى خلوصي أكار.

ويبدو أن الأوساط السياسية في أنقرة تعاملت مع هذه الدلالات بجدية، واعتبرتها ربما تعكس توجهاً ما في واشنطن، أو تسعى لخلق هذا التوجه على الأقل. فبعد يومين فقط من نشر المقال، نشر الرئيس التركي على حسابه في تويتر مقطع فيديو له وهو يمارس رياضة كرة السلة، مؤكداً "حرصه على ممارسة الرياضة ثلاث مرات أسبوعياً"، في محاولة واضحة لطمأنة الجمهور بشأن صحته ولياقته البدنية.

ومما يزيد من أهمية هذه الدلالات أن المقال لم يكتفِ بالتساؤل عن صحة أردوغان، بل انطلق لمناقشة المرشحين المحتملين لخلافته، وتحليل ذلك بالتفصيل، ثم تفضيل أحدهم أو ترجيح كفته.

ومن اللافت أيضاً أن المقال يلمح إلى إمكانية أن يخلف أردوغان "رجل قوي آخر، ربما تحت بند قانون الطوارئ" وليس في سياق انتخابات عادية، ولذلك رشح ثلاث شخصيات أمنية عسكرية، كما ذكرنا آنفاً. وهو ما يعكس -فيما يبدو- ازدواجية المعايير الأمريكية والغربية عموماً حين يتعلق الأمر بخصم أو طرف لا يدور في فلكهم بشكل كامل.

ولعل الدلالة الأخيرة هي ترجيح كفة وزير الدفاع خلوصي أكار على المرشحين الآخرين لأسباب تم تفصيلها سابقاً. وهو أمر يزداد أهمية بالنظر إلى المقال الآخر الذي أشرنا إليه (للكاتب خليل كارافلي) والذي رأى أن أكار "قومي مخلص، ولكن ذلك لا يعني أنه معادٍ للغرب"، في محاولة واضحة لتسويق الرجل أو إقناع صناع القرار في الغرب بأنه الخيار الأفضل لهم.

معضلة حزب العدالة والتنمية

بغض النظر عن دوافع الكاتب ومدى تعبيره عن توجه ما لدى الإدارة الأمريكية، فمن الواضح أن العلاقات التركية الأمريكية مؤخراً "لا تبشر بخير" ولا تسير على ما يرام، على حد تعبير أردوغان نفسه. كما أنه من الملاحظ أن مقالات أو تصريحات تتعلق بصحة أردوغان وفرصه في الانتخابات المقبلة صدرت أيضاً عن بعض الكتاب الروس.

وبعيداً عن فكرة الضغط على أردوغان بهذه الطريقة، فإن اللافت أن المراقبين الخارجيين لا يرون مرشحاً قوياً لخلافة أردوغان من داخل حزب العدالة والتنمية، أو بالأحرى من النواة الصلبة للحزب ومؤسسيه. فأكار وفيدان ليسا عضوين في الحزب، وصويلو انضم إليه عام 2012 فقط ويمثل تياراً أقرب للقوميين منه إلى الجذور الفكرية للحزب.

وهذا ليس رأي المراقبين الخارجيين فقط، بل الواقع يشير إلى أن الحزب الحاكم لا يضم بين صفوفه اليوم -خاصة من بين المؤسسين- شخصية تتمتع بالقوة والكاريزما والقدرة على توحيد الحزب تحت رايتها في مرحلة ما بعد أردوغان، للحفاظ على قوته ووحدته، خاصة وأن هياكله القيادية وكوادره تضم تيارات متعددة ومتنافسة.

وبناءً على ذلك، فمن اللافت والخطير أن حزباً إصلاحياً مثل العدالة والتنمية -بعد كل ما قدمه لبلاده على مدى عقدين تقريباً من الحكم- قد لا يتمكن من تقديم مرشح لخلافة أردوغان من بين أعضائه المخلصين ومن يعبر عن مشروعه وأهدافه الأساسية و"إعدادات المصنع" الخاصة به. وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل مشروع الحزب على المدى البعيد، فضلاً عن مدى اقتراب الحزب أو ابتعاده عن مشروعه الأصلي ومنطلقاته الإصلاحية الأولى.

ومما يزيد من التحديات أن المعارضة ما زالت مستمرة في تحالفها الانتخابي، وتتحدث عن نيتها تقديم مرشح توافقي لها في الانتخابات الرئاسية القادمة، مما يرفع من مستوى التحدي أمام حزب العدالة والتنمية، وأمام أردوغان على وجه التحديد، إذ يعني ذلك أن الانتخابات المقبلة لن تكون سهلة مثل سابقاتها وأنها تحمل تحدياً من نوع مختلف هذه المرة.

وختاماً، يواجه حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تحديات جمة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، ويواجهها مرشحه الرئاسي الرئيس الحالي أردوغان، لكن التحدي الأكبر يظل في مدى القدرة على الحفاظ على قوة الحزب ووحدته وتماسكه واستمرار مشروعه في مرحلة ما بعد أردوغان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة